«قاتل الشياطين»: ثنائية الخير والشرّ على الطريقة اليابانية
معلومات عن الكاتب

«قاتل الشياطين»: ثنائية الخير والشرّ على الطريقة اليابانية




لا يخفى على أحد أنّ صناعة الكوميكس، بجميع أشكالها، باتت الدّجاجة التي تبيض ذهباً. ليس ما نتحدّث عنه «خيالاً علميّاً»، بل هو واقع. قصّة المانغا اليابانية «قاتل الشياطين» (تعرف عالمياً باسم Demon Slayer: Kimetsu no Yaiba) التي ألّفها كويوهارو كوتوغي وأنتجتها «شركة شويشا» اليابانية كمانغا خلال أربعة أعوامٍ تقريباً (2016 ــــ2020)، تحوّلت إلى مسلسلٍ بين 2019 و2022 بكلفةٍ تقريبيّةٍ بلغت أقل من 400 ألف دولار أميركي، وباعت 150 مليون نسخة، واستطاعت تحقيق ما مقداره 9 مليارات دولار كأرباحٍ صافية خلال أقل من خمسة أعوام. لاحقاً، اشترت منصّة نتفليكس المسلسل ضمن اهتمامها بهذا النوع، ليصبح أحد أكثر المسلسلات مشاهدةً عبرها.

ما الذي نحن بصدده؟ للمانغا/ الأنيمي الياباني عشّاقها الأقحاح، أي die hard fans. يُقبلون عليها من دون نقاش. لكنّ «قاتل الشياطين» لم يحقّق كلّ هذه الضجّة ويفوز بالكثير من الجوائز (كجائزتَي «أوساما تيزوكا»، و«نوما» في عام 2020) لأنه يقارب جمهوره المعتاد فقط، بل لأنه تخطّى ذلك، فضلاً عن تخطّيه مشكلة الدبلجة واللّغة اليابانية بشكلٍ عام.

الدهم متوفّى. في بدايات الحلقة الأولى، يعود تانجيرو إلى المنزل ليكتشف بأن عائلته بمعظمها قتلها «شيطان». هنا تكون البداية: يعرف تانجيرو أنَّ «الشياطين» حقيقيّون. يتنبّه إلى أنّ شقيقته الكبرى (بين أشقائه) نيزكو لا تزال حيّةً، فيحملها لاهثاً، تجاه القرية لإيجاد علاجٍ لها. سرعان ما يُفاجأ بأنّها تحوّلت إلى «شيطان» هي الأخرى: لكن المفاجأة الأكبر أنّ هناك «أشخاصاً متخصّصين» في قتل هؤلاء الشياطين. يُظهر غيو توميوكا لقتل نيزكو التي تحوّلت إلى شيطان آكل للحوم البشر. توميوكا قاتل شياطين متمرّس، أي «هاشيرا»، أعلى رتبة في فيلقٍ يُدعى «فيلق قاتلي الشياطين». وللمفاجأة، يحمي الشقيقان بعضهما، فيما تلتزم نيزكو بعدم أكل شقيقها، بل دفاعها عنه. أمرٌ يفاجئ توميوكا كثيراً، فيقرّر العفو عنهما، ومساعدة تانجيروا في إيجاد علاج لشقيقته، ويدعوه لأن يصبح قاتلاً للشياطين هو الآخر، للانتقام ممّن دمروا حياته.

القصة قد تبدو مستهلكة بعض الشيء، إذا ما فكّرنا فيها: البطل الفتي، الذي يقتل «الشرير» عائلته، فيتعرّف إلى «جماعة» ترشده إلى الطريقة المثلى للاقتصاص/ الانتقام ممّن فعل به ذلك. هذا أمرٌ حقيقي، لكن الجديد الذي أضافه كاتب القصة «المانغاكا» (أي رسام المانغا كما يُسمّى في اليابان) كويوهارو غوتوغي هو لجوؤه إلى تقنيّات عدّة تقدّم العمل بطريقة تجعله أكثر من مجرّد قصة «كوميكس/ مانغا» أو مسلسل للرسوم المتحرّكة. نحن هنا أمام عملٍ مسبوكٍ بتقنيات عالية: يستخدم غوتوغي بدايةً تقنية skeleton key القادمة من مدرسة الكتابة الإبداعية لناحية رسم شخصيات أبطاله، وإعطائهم أبعاداً وطبقاتٍ حقيقية. يُشرِّح شخصياته تشريحاً دقيقاً، يعطيها صفاتٍ ومواصفاتٍ كثيرة تجعلها حيةً وحيويةً في آنٍ. ليس هناك شخصياتٌ مسطّحة أبداً: تانجيرو بطل القصّة يمتلك صفاتٍ متعدّدة، قد يجدها المشاهد في بداية العمل متناقضةً، لكنه سرعان ما يفهمها ويتقبّلها. الأمر نفسه ينسحب على الشخصيات الأخرى. نيزكو شقيقة البطل لا تتكلّم نهائياً ــ تقريباً ــ في العمل، إلا أن حركات جسدها وتعابير عينيها ووجهها تشرح الكثير. إينوسكي هاشيبيرا وزينيتسوا أغاتسوما صديقا البطل، يمتلكان أبعاداً كثيرة في شخصيّتهما تظهر تباعاً في المسلسل، حتى يكاد المشاهد يشك في أنهما شخصيتان حقيقيّتان لا مجرّد شخصيات في مسلسل كوميكس/مانغا.

قنية أخرى من مدرسة الكتابة الإبداعية، يستخدمها «المانغاكا» هي تقنية الـIn and Out التي تعني أننا كمشاهدين/ قرّاء نسمع ما يقوله البطل في بواطنه كما نسمع ما ينطقه. في الحلقة الأولى حين يحمل تانجيرو شقيقته على كتفيه، نسمع لهاثه وتنفّسه الخائف المرتجف وهو يمشي متثاقلاً في الثلج. يقول بأن رئتيه تكادان تنفجران من شدّة البرد، وقدماه لا تقويان على حمله، وإن شقيقته قد أضحت ثقيلةً عليه، ولا يعرف إن كان يستطيع أن يُكمل. هذا هو الـIn، بمعنى أنّ ما قاله لا تسمعه الشخصيّات الأخرى في العمل. أما الـOut، فيظهر في المشهد ذاته حين يرى شقيقته تهاجمه، فيحدّثها، أو يحدّث الهاشيرا توميوكا القادم لقتل شقيقته. أكثر من ذلك، يستخدم الكاتب نظرية «اللامنتمي» و«البطل المكسور» كصفتين لبطله تانجيرو، كما لبعض أبطاله الآخرين لاحقاً. تانجيرو ليس مجرّد بطل معتاد. إنه بطلٌ تعرّض للمأساةً، للحدث الجليل، فصار مكسوراً. يصير البطل غير واثقٍ لا بقدراته، ولا بشيء، لكنه في الوقت عينه، يمتلك الكثير من الإرادة والإصرار على حماية شقيقته نيزكو، فضلاً عن طيبةٍ شديدة. بالمناسبة، كان الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني أشهر مَن قدّم شخصية «البطل المكسور» في أعماله «رجال في الشمس»، «عائد إلى حيفا»، «أرض البرتقال الحزين» «عالم ليس لنا». كل أبطال كنفاني ــ تقريباً ــ كانوا «مكسورين»، لكنهم أشدّاء/ مصرّون أصحاب إرادة تجعلهم مقاومين لخصمٍ يفوقهم في كل شيء. تبدّلت فكرة الأرض عند كنفاني، بفكرة «العائلة/ الأخت» لدى غوتوغي. هنا تظهر تقنية الـTether أو «الرابط الخفي» (من مدرسة الكتابة الإبداعية كذلك). إنّ «الرابط» في كل لحظات المسلسل، هو تلك العلاقة القوية مع شقيقته، والإصرار على علاجها/ شفائها. وهذا ينسحب أيضاً عليها، حين نجدها تتحوّل من شيطانٍ «يقتات» على البشر، إلى كائنٍ عائلي، تدافع لا عن شقيقها فقط، بل عن كل البشر، الذين تعتقدهم عائلتها وإن حافظت في الوقت نفسه على قوى الشيطان الخارقة. إننا أمام عملٍ يُعيد الاعتبار لفكرة «العائلة» ودور «الأشقاء» في حماية بعضهم. البطل يحمل شقيقته في علبةٍ خشبية على ظهره طوال المسلسل تقريباً، لا يتركها إلّا في ما ندر، فضلاً عن انتباههما لبعض طوال الوقت.

هو لا يكلّ تجاه «مسؤوليّاته» العائلية، لا يشعر بالتثاقل من وجودها على ظهره حتى في أحلك الظروف، فضلاً عن تنبّهه لتحوّلاتها، وما يحدث معها: إنه عائلي في كلّ اللحظات والأوقات.

في المنحى ذاته، بذل الكاتب الياباني الثلاثيني (مواليد 1989)، جهداً كبيراً لإعطاء شخصيّاته بُعداً واقعياً هائلاً: يكفي النقاش الفلسفي حول الشر والخير في المسلسل: يقتل تانجيرو أحد الشياطين، ليُفاجأ بأن هذا الشيطان الذي كان قد قتل العديد من البشر، قد فعل ذلك لأنّه «مكسور» و«فقد عائلته» (وهي تقريباً قصة تانجيرو نفسها). يتعاطف تانجيرو مع هذا الشيطان، لا بل يُمسك بيده وهو يموت، لكنه في الوقت نفسه يُشير إلى أنّه «يتعاطف معه لكن ذلك لا يمنعه من أن يقتله لأنه قتل بشراً ويستحقّ العقاب».

القصة العميقة التي تمتدّ في موسمها الأوّل على 26 حلقةً على نتفليكس (مدة كل منها قرابة نصف ساعة) والمدبلجة إلى الإنكليزية، فضلاً عن ترجمةٍ عربية، تجعل المسلسل وجبةً سريعةً لعشاق المسلسلات التي تحمل بعداً وعمقاً وقصةً. وإن كان المشاهد قد يتوقّعها، فإنّه لا يتوقّع «الطريق» الذي تتحرّك فيه، وحوله. إذ لا يمكن نهائياً فهم أو توقّع كيفية حركة الأبطال، أو ماذا سيفعلون في هذه اللحظة أو تلك. فالأبطال غير معتادين، وكذلك الأشرار. الشرير الأكبر في المسلسل موزان كيبوتسوجي يتخفّى في الجزء الأوّل بشخصية رجلٍ لديه زوجة وطفلة صغيرة، مرتدياً ثياباً تشبه ثياب ملك البوب الأميركي الراحل مايكل جاكسون.

كيبوتسوجي، غير المعتاد نهائياً، يغيّر في لحظةٍ ما جسده: يصبح امرأة جميلةً، ثم طفلاً (في الجزء الثاني)، لكنه في كل الحالات ينطق بجملٍ قصيرةٍ، ويمارس نوعاً من «الفوقية المرعبة» وإن بشكلٍ تجعل المشاهد خائفاً منه رغم أنّه «صورةٌ متحركة». في الإطار عينه، لا يهمل صنّاع العمل صفات المانغا/ الكوميكس/ الأنيمي الكلاسيكية: نحن أمام أبطالٍ خارقين يطلقون النار، والثلج، والماء، ويستعملون قوى الطبيعة بشكلٍ مذهل، يحوّلونها إلى أسلحة يستطيع البشر «تطويعها» لقتل خصومهم. وكعادة هذه الأعمال، تُعطى كل هذه الأسلحة والتقنيات أسماء مذهلة، وتاريخاً طويلاً جذاباً، وحكايا هامشية، فيُصبح لكلّ سيفٍ اسمٌ وحكاية وتاريخ، ولكل «حركة» قتالية، أهل وأصل وفصل. لا شيء في هذه الأعمال بسيطٌ أو بلا معنى. إنّها حرفة الكوميكس/ المانغا الأصليّة: «تقنية الأبواب» أو يكون كلّ شيء بوابةً توصّل إلى مكانٍ آخر. فالأقراط التي يضعها بطل العمل تانجيرو التي تُدعى «هانافودا»، يتضّح أنّها ليست حلياً البتة. خلفها سرّ كبير، والوحمة على جبينه الأيمن هي «رسالة» شبيهة بتلك التي يمتلكها هاري بوتر من السلسلة الشهيرة التي كتبتها البريطانية جي كي رولينغ.

قد تبدو بعض المشاهد قاسيةً على الأطفال الصغار، إذ إنّه ليس عملاً موجّهاً لهم، بل للراشدين. لكن الأهم أنّ الحديث عن العائلة، ونقاشات الخير والشر، وقبول الآخر، ورفضه وحتّى الصراعات التي يضمّها المسلسل، تدفع للتفكير أكثر، فالصراع بين الخير والشر بات أشدّ تعقيداً من الصراع بين اللونَين الأبيض والأسود. إنّه عمل أنيمي ياباني متفوّق بكل ما للكلمة من معنى، يذكّر بشكلٍ كبير، بأعمال هاياو ميازاكي أو غو ناغاي الشهيرة.

* Demon Slayer: Kimetsu no Yaiba على نتفليكس

 

 

نُشر في صحيفة الأخبار اللبنانية بتاريخ 12 كانون الثاني 2022

https://al-akhbar.com/Media_Tv/327709