كتاب يأخذنا إلى «ذاك المكان»
معلومات عن الكاتب

كتاب يأخذنا إلى «ذاك المكان»




لا شك أن الكتب والدراسات التي تتناول موضوع السجون في لبنان قليلة وغير متاحة للاطلاع عليها بسهولة، لما  قد تحمله من حقائق صادمة ومخالفة للمعايير الدولية، خاصة في ما يتعلق بأوضاع المساجين. هذه الدراسات والأبحاث، إن وجدت، ترتكز في طرحها على سجن واحد كحالة دراسية، أو تقوم بتغطية إشكالية محدّدة في فضاء السجن مثل مظلومية المساجين، أو الوضع الصحي (أو النفسي) للمعتقلين، أو الإدارة والحراسة الأمنية. يأتي كتاب «ذاك المكان» (دار كتب للنشر 2015) للدكتور عمر نشابة، الأستاذ الأكاديمي المتخصص في العلوم الجنائية والقانوني الذي عمل في محكمة العدل الدولية، ليقدم دراسة علمية شاملة لثلاثة وعشرين سجناً للرجال والنساء في لبنان، قاربها بصورة تقاطعت فيها السياسة والإدارة والأمن والقضاء، كما حرص على أن يبقي بحثه المتخصص على درجة عالية من الانسانية.

قبل إهداء كتابه «إلى كل سجين في لبنان محروم من حقوقه الأساسية»، اختار نشابة أن يقتبس كلام نيلسون مانديلا: «يقال إن أحداً لن يعرف أمة حقاً حتى يدخل سجونها». هنا السؤال: لماذا سجونها مع أنّ الشائع هو مدارسها؟ وماذا يحمل وضع السجن من دلالات عن البلد الذي أنشأه ويديره؟

في كتابه «المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن (1975)»، يعرض الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو للتحول اللافت في عملية معاقبة المحكوم عليه من القرن السادس عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر. فبعدما كان العقاب عبارة عن استعراض علني يجري أمام حشود من العامة لتعذيب الجسد عبر وسائل إجرامية مثل الاستعانة بجلاد والسحق والحرق وتقطيع أجزاء من الجسد، أصبح في مطلع القرن التاسع عشر حضارياً.

تعدّ ولادة السجن مرحلة تنويرية في تاريخ الشعوب. فقد أسقطت مهرجان التلذذ بألم المحكوم عليه والذي يهدف إلى إقصائه، وأبدلته بنظام يعزل المسجون ويبقيه تحت المراقبة بهدف اصلاحه وتقويم سلوكه وجعله «طيّعاً ومفيداً». فالجريمة تضرّ المجتمع بأكمله وليس فقط الجاني والمجني عليه، وبناءً على ذلك على السجن أن يكون جهازاً انضباطياً شاملاً يعزل السجين عن العالم الخارجي وعن كل ما دفعه لارتكاب جريمته. «السجن يتطلب أكثر بكثير من المدرسة» حسب فوكو، ففي السجن سلطة تفرض على السجين نمط سلوك جديد يضبط موقفه الأخلاقي ويعلّمه الانضباط، ويعزله عن المسببات التي أدت إلى ارتكابه الجريمة.

يحمل الكتاب (250 صفحة من القطع الكبير بطباعةٍ مميّزة) في طياته خمسة أجزاء أساسية، إضافة إلى مقدمة لوزير الداخلية والبلديات السابق زياد بارود، وملحق من 35 صفحة بالمرسوم رقم 14310 عن تنظيم السجون وأمكنة التوقيف ومعهد إصلاح الأحداث وتربيتهم. يمكن اعتبار الكتاب أشبه بدليلٍ صوري لما يتضمنه من صور بعدسة المصور هيثم الموسوي، تحتل حيزاً من كل فصل وتقول الكثير عن وضع سجون لبنان. يُلحظ في الكتاب تناغم عالٍ بين المادة البحثية التي يقدمها نشابة وبين الصور التي التقطها الموسوي وتتنوع بين الملونة والأبيض والأسود.

في مطلع الجزء الأول «أوضاع السجون في لبنان»، تمتد صورة عريضة بالأبيض والأسود على دفتي الكتاب، تشي بحالة السجون قبل عرض الحقائق والأرقام: عشرة مساجين ممددين على الأرض، على فرشات من الاسفنج الرقيق لا تتسع أجسادهم، في وسطهم شخص يطوي ذراعيه فوق بطنه متجنباً احتلال مساحة سنتيمترات قليلة عن كلا جانبيه. كوع يده اليمنى ترتاح على ساق مسجون يستلقي في اتجاه معاكس، بينما تضغط ذراعه اليسرى - لضيق المساحة - على معدة مسجون آخر. مشهدٌ يبدو كما لو أنّه غير حقيقي، صورةٌ كما لو أنها من كابوس لا  من واقعٍ حدث فعلياً، وجرى تصويره لتثبيت تلك اللحظة المؤلمة.

يعرض الباحث في هذا الفصل مجمل المخالفات الموجودة في السجون ومن ضمنها - فكرة الصورة - «الاكتظاظ الخانق». إذ إنّ «كل مباني السجون في لبنان لا يمكن أن تستوعب أكثر من 2250 سجيناً وسجينة، فيما يُحشر فيها أكثر من 4000 نزيل» (ص15). يدعّم نشابة كلامه بجدول السجون التي تخضع لسلطة وزير الداخلية وقدرة استيعابها؛ فيقارن بين عدد السجناء وقدرة استيعاب كل سجن حسب المعايير الدولية: تحوي بعض السجون ضعف قدرة استيعابها؛ فسجن النبطية، على سبيل المثال، يزج فيه 80 شخصاً عوضاً عن 40 حسب المعايير الدولية، وسجن طرابلس للرجال يضم 550 سجيناً بدل 250، وقد يصل العدد إلى ثلاثة أضعاف قدرة الاستيعاب كما هي الحال في سجن روميه المركزي (جبل لبنان) الذي يحشر فيه 3000 سجين، بينما قدرة استيعابه حسب المعايير الدولية 1050.

تعاني سجون لبنان الثلاثة والعشرون من مشكلات أساسية جمة تحول بينها وبين تحقيق غايتها التي شُيدت وأسست من أجلها. فكيف لسجون  تعاني من نقص حاد في مياه الشرب والاغتسال، وفي عدد المراحيض، وقلة النظافة وانتشار الحشرات، وغياب تام للنشاطات التربوية والرياضية والتعليمية والبرامج العلاجية النفسية، أن تقوم باصلاح نفس المسجون وتضبط سلوكه وأخلاقه؟ كيف لسجون ليس فيها مشاغل ومعامل ليعمل فيها المعتقلون، أن تعلمهم كيفية تحصيل أجرهم بعرق جبينهم؟ يرى ميشيل فوكو أنّ «العمل الجزائي داخل الفضاء السجني يرسّخ حب العمل والالتزام به كما يعلّمه معنى كسب الأجر بعد التعب، وتوفير ماله والاقتصاد في الإنفاق». فعدم توفر هذه المشاغل يدفع السجين إلى سلوك غير مرجو مثل التآمر والوشاية واستخدام قوته الجسدية على من هم أضعف منه لسلبهم ممتلكاتهم.

"كل مباني السجون في لبنان لا يمكن أن تستوعب أكثر من 2250 سجيناً وسجينة، فيما يُحشر فيها أكثر من 7000 نزيل"

فوق كل هذا، هناك مشكلات إضافية تتعلق بالبنى التحتية وبطبيعة مباني السجون. فـ«باستثناء مباني السجن المركزي في رومية وسجن زحلة للرجال، كل مباني السجون الأخرى مصممة لتكون مراكز للشرطة أو مستودعات، أدخلت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي عليها تعديلات غير كافية لتحويلها إلى سجون لا تنطبق عليها المعايير الدولية». كما ان هذه المباني قديمة وبدائية، وبعضها لا تصل أشعة الشمس إلى ساحة النزهة فيه مثل سجون زغرتا، راشيا، جب جنين، صور، النبطية، جبيل، طرابلس.

كثير من السجون تفتقر لوجود هواتف ثابتة تمكن المعتقل من التواصل مع عائلته، وليس هناك من مساحة تسمح له بأن يحضن أفراد عائلته عند زيارتهم له. في الإطار عينه، يأتي التقصير الأمني كذلك: فلا كاميرات مراقبة كافية، ولا بوابات متينة في سجون عدة، ولا أجهزة تفتيش مناسبة؛ ناهيك عن أنَّ معظم السجون في المدن أو قريبة منها ومن التجمعات السكنية، الأمر الذي يعتبر مخالفاً لآلية اختيار موقع السجون.

يعرض الجزء الثاني «23 سجناً بالسوط والصورة» معلومات جمعها نشابة لدى زياراته للسجون بين عامي 2010 و2011. يفرد الباحث مساحة من المعلومات والصور تميز كل سجن عن غيره؛ فسجن صور مثلاً يعاني من «مشاكل بنيوية عديدة أبرزها قدم عهد بنائه الذي يعود إلى 300 سنة وعدم صلاحيته للبشر، إذ إنّه بُنيَ أساساً كإسطبل للأحصنة» (ص40). كما أنّه يعاني من ارتفاع نسبة الرطوبة لوقوعه على الواجهة البحرية، ومن خلل في نظام التهوئة  يؤدي إلى مشاكل صحية بين السجناء والحراس. بينما سجن جزين تُستعمل الحمامات فيه «كغرف تخزين للطعام. ولا يتوفر مطبخ أو براد للسجناء» (ص44)، وسجن راشيا ليست فيه غرفة انتظار الزوار ولا هاتف يستعمله السجناء للتواصل مع ذويهم. وسجن زحلة للنساء لا طبيب صحة فيه رغم وجود سجينات حوامل. في هذا الفصل، صور كثيرة التقطت من داخل الزنازين توضح الوضع المزري لحال السجون، ولا تزال الصورة أبلغ تعبيرٍ حتى من الكلمات والأرقام الإحصائية والبيانات الدالة: فسجن بعلبك (ص74) هناك صورة لمسجون ينام أمام باب المرحاض بينما تظهر إحدى الصور في مبنى الأحداث في رومية (ص144) سجين يكتب ويطالع في مكان يبدو أنّه مكتبة المبنى.

يصر صاحب الكتاب على نقل الصورة كاملة عن أوضاع السجون؛ لهذا، في الفصل الثالث «قصص من ذاك المكان»؛ يدعم بحثه بنشر شهادات للسجناء تعتبر مساهمتهم الخاصة في هذا العمل، مع الحفاظ على ما قالوه/كتبوه «بحرفيته وبما ورد فيه من أخطاء»، باستثناء الشتائم التي تم حذفها والأسماء التي تم استبدالها بأخرى مستعارة. يقول جورج، السجين في مبنى الأحداث في السجن المركزي في روميه، «بتحدى أي حدا من برا يجي ينام ليلة.. نحنا هون يا حبيبي منّام على الواقف.. وخود على روايح وقرف.. وجرب..». ويقول محمد من سجن زغرتا: «زي الحيوانات ويا محلى الحيوانات. كبونا تحت الأرض ونسيونا.. ودبّر راسك بهالقاووش.. هيدا قاتل هيدا محتال هيد ارهابي هيدا اغتصب بنتو.. كبوني بيناتهن وأنا كل اللي عملته غلطة زغيرة (توقيع شيك بلا رصيد)» (ص133).

"لا يكتفي الكاتب بعرض المشكلات كما هي، بل يقدّم توصيات لترميم السياسة العقابية في لبنان"

من شهادات السجناء ينطلق الكاتب إلى الجزء الرابع «قواعد الحد الأدنى لمعاملة السجناء»، ويعرض فيه المواد القانونية والقواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء. هذه القواعد تحدد شروطاً معينة لأماكن الاحتجاز، من حيث عدد السجناء، ونقلهم تخفيفاً للازدحام، وتأمين التهوئة والإنارة، ومستلزمات النظافة الشخصية، وتوفير الطعام، منحهم نزهة يومية تحت الرقابة، وتأمين الخدمات الطبية، بالاضافة إلى فرض نظام الأمن وحظر العقوبات اللاإنسانية. ثم يختم الباحث مع الفصل الخامس «إدارة السجون ليست وظيفة البوليس» ليقول إن مشاكل السجون في لبنان لا تقتصر فقط على كل ما ذكر من نواقص ومخالفات وتقصير، بل «المشكلة الأساس تكمن في غياب السياسة العقابية في النظام اللبناني» (ص184).

الجدير بالذكر أنّ نشابة لا يكتفي بعرض المشكلات كما هي، بل يجهد في تقديم توصيات من شأنها أن تطور وتقوّم وترمّم السياسة العقابيّة في لبنان.

«ذاك المكان» دراسة ميدانية متخصّصة عن أوضاع السجون في لبنان، تطرح شرحاً وافياً لحال السجون وتفرد مساحة لعرض مشاكل كل سجن على امتداد الأراضي اللبنانية.

«ذاك المكان» الذي يتم التعتيم عليه مثلما يفعل الناس عند الحديث عن مرض السرطان بوصفه «ذاك المرض»، معتبرين أنّ عدم تسميته يبعده عنهم، إرتأى نشابة أن يأخذنا إليه عبر الأرقام والحقائق والمواد القانونية والصور، ليرينا «ذاك المكان» الذي أنشئ لحماية المجتمع، لكنه بحسب ما وجدنا فيه من تقصير بحقوق المساجين الأساسية، قد لا يدحض الجريمة بل ينتجها ويحث على استمرارها.

 

 

نُشر في ملحق القوس الصادر عن صحيفة الأخبار اللبنانية بِتاريخ 13 آب 2022

كتاب يأخذنا إلى «ذاك المكان» | القوس (alqaous.com)