معلومات عن الكاتب

عبور



عبور*

 

نتيجة الاحتلال الاسرائيلي لبلدتنا كفرا، توقفت الحياة اليومية العادية وتعطلت الدراسة في المدرسة الرسمية وكذلك السير على الطريق العام، الذي يشق الجزء الحديث من البلدة ويربطه بالقرى القريبة.

لذلك كان علينا ان نتابع دراستنا للصفين الاول والثاني المتوسط في بلدة قانا، واصبحنا نتنقّل يوميًا بين البلدتين في "بيك-اب" خالي حسن، الذي كان يحرص على ايصالنا صباحًا وانتظارنا مساءً لإعادتنا الى القرية، إلى ان عمد الاحتلال الاسرائيلي، الرابض على تلة الحقبان، الى اطلاق النار بشكل متعمّد بإتّجاه السيارات الداخلة الى البلدة، ما أسفر عن استشهاد علي، أحد أبناء القرية الذي كان يعمل على تأمين الحاجات الأساسية لها، فقطعت الطريق بشكل تام.

في ذلك النهار، خرجنا من المدرسة في الموعد المحدّد، لكن خالي لم يكن ينتظرنا. انتظرنا، أنا وأختي وخالاتي وخالي وسام، ولكن دون جدوى. وعندما لم يتبق أحد في المدرسة، قررنا ان نتجه سيرًا على الأقدام إلى الضيعة. واتفقنا على ان كل ما علينا فعله هو الانتباه واجتياز بلدة صديقين الى ان نصل الى العاصي، والعاصي جبل غير مأهول، فلا بيوت ولا اناس فضوليين يتحرشون بنا لمعرفة ان كنت وشقيقتي توأمين. وهناك سنرتاح ونتابع السّير الى الضيعة.

رحلتنا على طريق العاصي كانت مليئة بالضحك واللعب من جهة، وقطف النباتات الخضراء من جهة ثانية، فالطريق طويلة وقد ضربنا الجوع. بعد حوالي ساعة ونصف من التّسلق المتواصل، وصلنا الى البلدة، الى مفرق الموت حيث استشهد علي. وهناك عدنا الى هدوئنا وانضباطنا، فعلينا ان نقطع مسافة تتعدى المئة متر حتى نصل الى حاجز الطوارئ، مقابل المدفعية الصغيرة، واتفقنا أننا اذا تابعنا السير بصمت، في سننا الصغيرة،

لن يطلقوا علينا الرصاص. ولكن الاسرائيليين وعملائهم لم يعملوا حسب تفكيرنا الطفولي. فما ان وطأت اقدامنا المفرق حتى بدأوا باطلاق الرصاص علينا. ركضنا حتى وصلنا الى مبنى من ثلاث طبقات وإختبأنا خلفه. لم يتوقف الرصاص، بل استمر بكثافة، وكنا المستهدفين منه، عرفنا ذلك من أزهار اللوز المتساقطة بكثافة على الأرض من الشجر المقابل لنا.

احتضنّا بعضنا بعضًا بشدة. نظرت خالتي بشرى إلينا وعلى وجهها تعابير الجدية والحزم " اقرأوا آية الكرسي حتى الله يعميهن عنا". عندها بدأنا بقراءة اّيات لا نعرف معناها، حتى صرخت فينا مرة ثانية " هذه الفاتحة مش الكرسي! شو بدكن تموتوا؟!!!!" توقف الرصاص، فوقفت خالتي بشرى مرة ثانية وقالت " بدي فوت عالحمام!" " وين بدك تفوتي عالحمام؟!! انطري شوي. هلأ بنوصل على البيت!" " كيف بدنا نوصل عالبيت؟! لازم ننطر تتعتم ونركض بسرعة عحاجز الطوارئ!" تدخلت قائلة" بنطلع من حد شجرات اللوز وبنمرق من ورا بيت ام عباس وبنوصل على الحاجز".

تدخلت بشرى " شو؟! ايه ساعتها بيفكرونا البقرات! تتذكري كيف قوصوا على البقرة وقتلوها؟ ما بتفرقش معهن! ديروا وجكن". وقفزت الى ارض المبنى لتلبي نداء الطبيعة.

لدى رؤيتنا لها في الحمام بدأنا بالضحك ونسينا الوضع الذي كنا فيه. عندها سمعنا صوتا ينادينا بلغة غير مفهومة، نظرنا فإذا بأحد جنود الكتيبة النيبالية في القوات الدولية ينادينا:

come, come

وقفت خالتي دلال ووضعت يدها على خصرها وباليد الاخرى اخذت تشير بعصبية: "شو  come,  come  بدك إسرائيل تقتلنا؟ you come, come  سامع you come, come   اسرائيل boom, boom"

عندها رمى خالي وسام بجسمه على الارض وكأنه اصيب فأشارت اليه دلال "ونحن بنموت هيك. بدك نموت هيك"؟

في هذه اللحظات اصابنا ضحك هستيريّ. فهم الجندي مضمون الاشارة:

"اسرائيل no come come, boom boom"

جلست خالتي الى جانبنا على الارض وصرخت بشقيقتها:" خلصت ايه اقعدي حدنا. وسام قوم من استشهادك واقعد هون، ونحن من هون مش متحركين، قال شو:come, come  لأنه مش سامع "Boom boom"

في جلستنا الاعتراضية لاحظنا حركة واصواتًا عند الكتيبة النيبالية وبعد فترة من المشاورات نزل أحدهم الينا وعلى وجهه ابتسامة ليطمئننا:" come with me  فوقفت خالتي دلال وعلى وجهها دلائل العزم واوقفتنا صفًا واحدًا وأخبرته بما يتوجب عليه القيام به " you take 1,1 " وأشارت الينا واحدًا تلو الآخر.

فابتسم الجندي المسكين ونقلنا واحدًا بعد الآخر واضعًا نفسه مقابل الثكنة العسكرية الاسرائيلية الى ان وصلنا أخيرًا الى الحاجز وتنفسنا الصعداء.

 


 

*نشرت هذه القصة في المجموعة القصصيّة "بندقية تشيكوف"

*اللوحة للفنانة الإيطالية "صوفيا فريزيا - Sofia Fresia"