الريجيم الثقافي

عن اشتباك "الرجال والبنادق"




أحمد مدلج 

(الجيل السادس – ورشة الكتابة الإبداعية)

 

 

"هذه تسع لوحات، أردتُ منها أن أرسم الأفق الذي أشرق فيه الرجال والبنادق والذين -معًا- سيرسمون اللوحة الناقصة في هذه المجموعة". بهذه الجملة يقدّم الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني كتابه "عن الرجال والبنادق"، الصادر في طبعته الأولى في العام 1968. هذه اللوحات هي عبارة عن تسع قصص قصيرة يرويها كنفاني بلغة مباشرة واضحة لكنها في الوقت عينه تحمل الكثير من الرموز والدلالات، فيكاد يخرج القارئ من كل مقطع باقتباسٍ يخلّد كلماته إلى أبد القضية والمقاومة، مثل: "أنت لا تستطيع أن تسأل مقاتلًا لماذا تُقاتل؟ كأنّك تسأل رجلًا لماذا أنتَ ذكر؟"، و "لو حمل كل رجل في الجليل عشرين فشكة واتجه إلى قلعة صفد لمزقناها في لحظة واحدة"، و"رأسمال المارتينة لحظة شجاعة واحدة، ربما جرح من الحربة المثبتة فوقها أيضًا". وتبقى اللوحة الناقصة في المجموعة هي نضال كنفاني واغتياله من قِبل الموساد الصهيوني في الثامن من تموز عام 1972، فالعدو فَهِم أهمية قلم غسان كنفاني، وثقافته التي سعى إلى نشرها وتسريخها في عمرٍ مبكر.

 في "عن الرجال والبنادق"، يروي الشهيد غسان كنفاني قصص اشتباك المقاومين الفلسطينيين منذ اللحظات الأولى أمام هجمات العدو الصهيوني وبتسهيل من الجنود الإنكليز، واشتباك أولاد المخيمات في تأمين لقمة العيش، ثم في التدريب العسكري تحضيرًا للمواجهة. ينقسم الكتاب إلى قسمين بالإضافة إلى ملاحظة أخيرة عن "أم سعد" (تُعد بمثابة مدخل لرواية أم سعد التي صدرت بعدها بعام واحد)، ومدخلٍ أصرّ الكاتب على وصفه بأنّه "خارج الموضوع"، لكنّ القارئ لن يطيل في استدراك أهمية مقدمة كنفاني ومدى ارتباطها بالقضية والاشتباك والمقاومة. 

يتألف الجزء الأول من أربع قصص: "الصغير يستعير مرتينة خاله ويشرق إلى صفد"، "الدكتور قاسم يتحدث لإيفا عن منصور الذي وصل إلى صفد"، "أبو حسين يقوّص على سيارة إنكليزية"،  و"الصغير وأبوه والمرتينة يذهبون إلى قلعة جدّين". وتشكّل القصص الأربع الأخيرة القسم الثاني من الكتاب: "الصغير يذهب إلى المخيم"، "الصغير يكتشف أن المفتاح يشبه الفأس"، "صديق سلمان يتعلّم أشياء كثيرة في ليلة واحدة"، و"حامد يكف عن سماع قصص الأعمام". 

يأخذنا الكاتب في القسم الأول من الرواية إلى مجد الكروم، في الجليل الأعلى، حيث يسكن منصور البالغ من العمر سبعة عشرة عامًا. يستعير مارتينة خاله للذهاب إلى صفد بهدف مساعدة أهلها في صدّ هجوم الإنكليز والصهاينة، ثم يعود بعدها للالتحاق بالثورة مع والده في جدّين. أربع روايات نعيش فيها تفاصيل الأرض بتضاريسها من جبال ووديان ووحل، وطقسها الذي يتبدّل من ماطرٍ إلى مشمسٍ حارق. نشعر بصعوبة الطريق الوعرة حاملين البندقية فوق أكتافنا، ونتأمل تفاصيلها من الماسورة إلى حزامها الجلدي، كما فعل منصور. يدخلنا كنفاني إلى قرية مجد الكروم لنتعرف على سكانها وحياتهم الروتينية وسلوكهم اليومي، ثم يمضي بنا إلى مدينة صفد ليحدثنا عن الثورة والخيانة، عن «ايدل مايبرك» والخواجة «بار» «بندرلي»، «برونفلت» والكثيرين من اليهود المقيمين في صفد أصحاب الدكاكين والصيدليات والفنادق، الذين اتضح فيما بعد أنّهم أفراد من عصابة الهاغاناه الصهيونية.

في القسم الثاني من الرواية، يتناول الكاتب أربعة قصصٍ منفصلة عن بعضها البعض، ويجمعها عنوان واحد هو الاشتباك؛ الاشتباك المتواصل بدءًا من مقاومة العدو إلى الاشتباك في مخيمات اللجوء جرّاء الفقر والجوع والبرد القارس، ثم الاشتباك في مخيمات التدريب العسكري، تحضيرًا لمواجهة العدو والاشتباك معه حتى النصر أو الشهادة. ويختم كنفاني كتابه بملاحظة عن "أم سعد" المرأة المشتبكة التي تلقت خبر التحاق ابنها سعد بالفدائيين بفرحة كبيرة، وهي تتمنى الانضمام إلى ذاك المخيم لخدمة الفدائيين وإعداد الطعام، فـَ "خيمة عن خيمة بتفرق"، خيمة العمل الفدائي تفرق حسب أم سعد عن خيمة اللجوء والفقر والمهانة. 

"عن الرجال والبنادق" هو كتاب يبحث في قصصه عن الاشتباك اليومي للفلسطيني من الاحتلال إلى نشأة المخيمات، لكنّه في النهاية يعيد ابن المخيم إلى الاشتباك مجددًا نحو فلسطين لمقاومة العدو بالحديد والنار، بعد أعوام من الاشتباك مع الظروف القاسية في الشتات. 

 

 

8 أيلول 2022